فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال السديّ وغيره: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا} بالظاهر وأسرّوا الكفر {أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله}.
وقيل: نزلت في المؤمنين.
قال سعد: قيل يا رسول الله لو قصصت علينا فنزل: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} فقالوا بعد زمان: لو حدثتنا فنزل: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} [الزمر: 23] فقالوا بعد مدة: لو ذكرتنا فأنزل الله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق} ونحوه عن ابن مسعود قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين، فجعل ينظر بعضنا إلى بعض ويقول: ما أحدثنا؟ قال الحسن: استبطأهم وهم أحبّ خلقه إليه.
وقيل: هذا الخطاب لمن آمن بموسى وعيسى دون محمد عليهم السلام لأنه قال عقيب هذا: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} أي ألم يأن للذين آمنوا بالتوراة والإنجيل أن تلين قلوبهم للقرآن، وألا يكونوا كمتقدمي قوم موسى وعيسى؛ إذ طال عليهم الأمد بينهم وبين نبيِّهم فقست قلوبهم.
قوله تعالى: {وَلاَ يَكُونُواْ} أي وألا يكونوا فهو منصوب عطفًا على {أَن تَخْشَعَ}.
وقيل: مجزوم على النهي؛ مجازه ولا يكونن؛ ودليل هذا التأويل رواية رُوَيس عن يعقوب {لاَ تَكُونُوا} بالتاء؛ وهي قراءة عيسى وابن إسحاق.
يقول: لا تسلكوا سبيل اليهود والنصارى؛ أعطوا التوراة والإنجيل فطالت الأزمان بهم.
قال ابن مسعود: إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد قست قلوبهم، فاخترعوا كتابًا من عند أنفسهم استحلته أنفسهم، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم، حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، ثم قالوا: أعرضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل، فإن تابعوكم فآتركوهم وإلا فآقتلوهم.
ثم اصطلحوا على أن يرسلوه إلى عالم من علمائهم، وقالوا: إن هو تابعنا لم يخالفنا أحد، وإن أبى قتلناه فلا يختلف علينا بعده أحد؛ فأرسلوا إليه، فكتب كتاب الله في ورقة وجعلها في قَرْن وعلّقه في عنقه ثم لبس عليه ثيابه، فأتاهم فعرضوا عليه كتابهم، وقالوا: أتؤمن بهذا؟ فضرب بيده على صدره، وقال: آمنت بهذا يعني المعلّق على صدره.
فافترقت بنو إسرائيل على بضع وسبعين مِلّة؛ وخير مللهم أصحاب ذي القَرْن.
قال عبد الله: ومن يعش منكم فسيرى منكرًا، وبحَسْب أحدكم إذا رأى المنكر لا يستطيع أن يغيره أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره.
وقال مقاتل بن حيان: يعني مؤمني أهل الكتاب طال عليهم الأمد واستبطؤوا بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} يعني الذين ابتدعوا الرهبانية أصحاب الصوامع.
وقيل: من لا يعلم ما يتدين به من الفقه ويخالف من يعلم.
وقيل: هم من لا يؤمن في علم الله تعالى.
ثبتت طائفة منهم على دين عيسى حتى بُعِث النبيّ صلى الله عليه وسلم فآمنوا به، وطائفة منهم رجعوا عن دين عيسى وهم الذين فَسَّقهم اللَّهُ.
وقال محمد بن كعب: كانت الصحابة بمكة مجدِبِين، فلما هاجروا أصابوا الرِّيف والنعمة، ففتروا عما كانوا فيه، فقست قلوبهم، فوعظهم الله فأفاقوا.
وذكر ابن المبارك: أخبرنا مالك بن أنس، قال: بلغني أن عيسى عليه السلام قال لقومه: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون.
ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب وانظروا فيها أو قال في ذنوبكم كأنكم عبيد؛ فإنما الناس رجلان معافًى ومبتلًى، فآرحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية.
وهذه الآية {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله} كانت سبب توبة الفضيل بن عياض وابن المبارك رحمهما الله تعالى: ذكر أبو المطرِّف عبد الرحمن بن مروان القَلاَنسيّ قال: حدثنا أبو محمد الحسن بن رشيق، قال حدّثنا علي بن يعقوب الزيات، قال حدثنا إبراهيم بن هشام، قال حدثنا زكريا بن أبي أبان، قال حدثنا الليث بن الحرث قال حدّثنا الحسن بن داهر، قال سئل عبد الله بن المبارك عن بدء زهده قال: كنت يومًا مع إخواني في بستان لنا، وذلك حين حملت الثمار من ألوان الفواكه، فأكلنا وشربنا حتى الليل فنمنا، وكنت مولعًا بضرب العودِ والطُّنبور، فقمت في بعض الليل فضربت بصوت يقال له راشين السَّحَر، وأراد سنان يغنِّي، وطائر يصيح فوق رأسي على شجرة، والعود بيدي لا يجيبني إلى ما أريد، وإذا به ينطق كما ينطق الإنسان يعني العود الذي بيده ويقول: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق} قلت: بلى واللَّه وكسرت العود، وصرفت من كان عندي، فكان هذا أوّل زهدي وتشميري.
وبلغنا عن الشعر الذي أراد ابن المبارك أن يضرب به العود:
أَلَمْ يَأْنِ لي مِنك أن تَرْحَمَا ** وتَعْصِ العَواذِلَ واللُّوَّما

وتَرْثِي لصَبٍّ بكم مُغْرَمٌ ** أقام على هجرِكم مَأْتَمَا

يَبِيتُ إِذا جَنَّهُ لَيْلُهُ ** يُراعِي الكَواكِبَ والأَنْجُمَا

وماذا على الظَّبي لَوْ أنّهُ ** أحَلّ مِن الوَصْلِ ما حَرَّمَا

وأما الفضيل بن عياض فكان سبب توبته أنه عشق جارية فواعدته ليلًا، فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع قارئًا يقرأ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله} فرجع القهقري وهو يقول: بلى والله قد آن! فآواه الليل إلى خربة وفيها جماعة من السابلة، وبعضهم يقول لبعض: إن فضيلًا يقطع الطريق.
فقال الفضيل: أوّاه! أراني بالليل أسعى في معاصي الله، قوم من المسلمين يخافونني! اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام.
قوله تعالى: {اعلموا أَنَّ الله يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} أي {يُحْيِي الأرض} الجدبة {بَعْدَ مَوْتِهَا} بالمطر.
وقال صالح المري: المعنى يلين القلوب بعد قساوتها.
وقال جعفر بن محمد: يحييها بالعدل بعد الجور.
وقيل: المعنى فكذلك يحيي الكافر بالهدى إلى الإيمان بعد موته بالكفر والضلالة.
وقيل: كذلك يحيي الله الموتى من الأمم، ويميّز بين الخاشع قلبه وبين القاسي قلبه.
{قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي إحياء الله الأرض بعد موتها دليل على قدرة الله، وأنه لمحيي الموتى. اهـ.

.قال الألوسي:

{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله}.
استئناف لعتاب المؤمنين على الفتور والتكاسل فيما ندبوا إليه والمعاتب على ما قاله الزجاج طائفة من المؤمنين وإلا فمنهم من لم يزال خاشعًا منذ أسلم إلى أن ذهب إلى ربه، وما نقل عن الكلبي.
ومقاتل أن الآية نزلت في المنافقين فهم المراد بالذين آمنوا مما لا يكاد يصح، وقد سمعت صدر السورة الكريمة ما روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، وأخرج ابن المبارك وعبد الرزاق، وابن المنذر عن الأعمش قال: لما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأصابوا من لين العيش ما أصابوا بعد ما كان لهم من الجهد فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا فنزلت {أَلَمْ يَأْنِ} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس قال: إن الله تعالى استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن فقال سبحانه: {أَلَمْ يَأْنِ} الآية، وفي خبر ابن مردويه عن أنس بعد سبع عشرة سنة من نزول القرآن.
وأخرج عن عائشة قالت:«خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفر من أصحابه في المسجد وهم يضحكون فسحب رداءه محمرًا وجهه فقال: أتضحكون ولم يأتكم أمان من ربكم بأنه قد غفر لكم وقد نزل علي في ضحككم آية {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ} الخ؟ قالوا: يا رسول الله فما كفارة ذلك؟ قال: تبكون بقدر ما ضحكتم»، وفي خبر أن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام قد ظهر فيهم المزاح والضحك فنزلت، وحديث مسلم ومن معه السابق مقدم على هذه الآثار على ما يقتضيه كلام أهل الحديث، و{يَأْنِ} مضارع أني الأمر أنيًا وأناءًا وإناءًا بالكسر إذا جاء أناه أي وقته، أي ألم يجيء وقت أن تخشع قلوبهم لذكره عز وجل.
وقرأ الحسن، وأبو السمال {ألما} بالهمزة، ولما النافية الجازمة كلم إلا أن فيه أن المنفى متوقع.
وقرأ الحسن {يئن} مضارع آن أينا بمعنى أني السابق، وقال أبو العباس: قال قوم: إن يئين أينا الهمزة مقلوبة فيه عن الحاء وأصله حان يحين حينًا وأصل الكلمة من الحين {وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق} أي القرآن وهو عطف على ذكر الله فإن كان هو المراد به أيضًا فالعطف لتغاير العنوانين نحو:
هو الملك القرم وابن الهمام

فإنه ذكر وموعظة كما أنه حق نازل من السماء وإلا بأن كان المراد به تذكير الله تعالى إياهم فالعطف لتغاير الذاتين على ما هو الشائع في العطف وكذا إذا أريد به ذكرهم الله تعالى بالمعنى المعروف، وجوز العطف على الاسم الجليل إذا أريد بالذكر التذكير وهو كما ترى، وقال الطيبي: يمكن أن يحمل الذكر على القرآن وما نزل من الحق على نزول السكينة معه أي الواردات الإلهية ويعضده ما روينا عن البخاري، ومسلم، والترمذي عن البراء «كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين فغشيته سحابة فجعلت تدنو وجعل فرسه ينفر منها فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فقال: تلك السكينة تنزل للقرآن» وفي رواية «اقرأ فلان فإنها السكينة تنزل عند القرآن أو للقرآن» انتهى، ولا يخفى بعد ذلك جدًّا ولعلك تختار حمل الذكر وما نزل على القرءان لما يحس مما بعد من نوع تأييد له، وفسر الخشوع للقرآن بالانقياد التام لأوامره ونواهيه والعكوف على العمل بما فيه من الأحكام من غير توان ولا فتور، والظاهر أنه اعتبر كون اللام صلة الخشوع، وجوز كونها للتعليل على أوجه الذكر فالمعنى ألم يأن لهم أن ترق قلوبهم لأجل ذكر الله تعالى وكتابه الحق النازل فيسارعوا إلى الطاعة على أكمل وجوهها، وفي الآية حض على الخشوع، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كما أخرج عنه ابن المنذر إذا تلاها بكى ثم قال: بلى يا رب بلى يا رب، وعن الحسن أما والله لقد استبطأهم وهم يقرؤون من القرآن أقل مما تقرؤون فانظروا في طول ما قرأتم وما ظهر فيكم من الفسق، وروي السلمي عن أحمد بن أبي الحواري قال بينا أنا في بعض طرقات البصرة إذ سمعت صعقة فأقبلت نحوها فرأيت رجلًا قد خر مغشيًا عليه فقلت: ما هذا؟ فقالوا: كان رجلا حاضر القلب فسمع آية من كتاب الله فخر مغشيًا عليه فقلت: ما هي؟ فقيل: قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله} فأفاق الرجل عند سماع كلامنا فأنشأ يقول:
أما آن للهجران أن يتصرما ** وللغصن غصن البان أن يتبسما

وللعاشق الصب الذي ذاب وانحنى ** ألم يأن أن يبكي عليه ويرحما

كتبت بماء الشوق بين جوانحي ** كتابًا حكى نقش الوشى المنمنما

ثم قال: إشكال إشكال إشكال فخر مغشيًا عليه فحركناه فإذا هو ميت، وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه إن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة فبكوا بكاءًا شديدًا فنظر إليهم فقال: هكذا كنا حتى قست القلوب، ولعله أراد رضي الله تعالى عنه أن الطراز الأول كان كذلك حتى قست قلوب كثير من الناس ولم يتأسوا بالسابقين وغرضه مدح أولئك القوم بما كان هو ونظراؤه عليه رضي الله تعالى عنهم، ويحتمل أن يكون قد أراد ما هو الظاهر، والكلام من باب هضم النفس كقوله رضي الله تعالى عنه: أقيلوني فلست بخيركم، وقال شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي قدس سره: معناه تصلبت وأدمنت سماع القرآن وألفت أنواره فما تستغر به حتى تتغير كما تغير هؤلاء السامعون انتهى وهو خلاف الظاهر، وفيه نوع انتقاص للقوم ورمز إلى أن البكاء عند سماع القرآن لا يكون من كامل كما يزعمه بعض جهلة الصوفية القائلين: إن ذلك لا يكون إلا لضعف القلب عن تحمل الواردات الإلهية النورانية ويجل عن ذلك كلام الصديق رضي الله تعالى عنه، وقرأ غير واحد من السبعة {وَمَا نَزَلَ} بالتشديد، والجحدري وأبو جعفر والأعمش وأبو عمرو في رواية يونس وعباس عنه {نَزَّلَ} مبنيًا للمفعول مشددًا، وعبد الله أنزل بهمزة النقل مبنيًا للفاعل.
{وَلاَ يَكُونُواْ كالذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلُ} {لا} نافية وما بعدها منصوب معطوف على تخشع.
وجوز أن تكون ناهية وما بعدها مجزوم بها ويكون ذلك انتقالا إلى نهي أولئك المؤمنين عن مماثلة أهل الكتاب بعد أن عوتبوا بما سمعت وعلى النفي هو في المعنى نهى أيضًا.
وقرأ أبو بحرية وأبو حيوة وابن أبي عبلة وإسماعيل عن أبي جعفر، وعن شيبة ويعقوب وحمزة في رواية عن سليم عنه {وَلاَ تَكُونُواْ} بالتاء الفوقية على سبيل الالتفات للاعتناء بالتحذير، وفي {لا} ما تقدم، والنهي مع الخطاب أظهر منه مع الغيبة.
{فَطَالَ عَلَيْهِمُ الامد} أي الأجل بطول أعمارهم وآمالهم، أو طال أمد ما بينهم وبين أنبيائهم عليهم السلام وبعد العهد بهم، وقيل: أمد انتظار القيامة والجزاء، وقيل: أمد انتظار الفتح، وفرقوا بين الأمد والزمان بأن الأمد يقال باعتبار الغاية والزمان عام في المبدأ والغاية، وقرأ ابن كثير في رواية الأمدّ بتشديد الدال أي الوقت الأطول {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} صلبت فهي كالحجارة، أو أشد قسوة {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون} خارجون عن حدود دينهم رافضون لما في كتابهم بالكلية، قيل: من فرط القسوة وذكر أنه مأخوذ من كون الجملة حال، وفيه خفاء والأظهر أنه من السياق، والمراد بالكتاب الجنس فالموصول يعم اليهود والنصارى وكانوا كلهم في أوائل أمرهم يحول الحق بينهم وبين كثير من شهواتهم وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا لله تعالى ورقت قلوبهم فلما طال عليهم الزمان غلبهم الجفاء والقسوة وزالت عنهم الروعة التي كانت يجدونها عند سماع الكتابين وأحدثوا ما أحدثوا واتبعوا الأهواء وتفرقت بهم السبل، والقسوة مبدأ الشرور وتنشأ من طول الغفلة عن الله تعالى، وعن عيسى عليه السلام لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى فتقسو قلوبكم فإن القلب القاسي بعيد من الله عز وجل ولا تنظروا إلى ذنوب العباد كأنكم أرباب وانظروا في ذنوبكم كأنكم عباد والناس رجلان مبتلي ومعافى فارحموا أهل البلاء واحمدوا على العافية ومن أحس بقسوة في قلبه فليهرع إلى ذكر الله تعالى وتلاوة كتابه يرجع إليه حاله كما أشار إليه قوله عز وجل: {اعلموا أَنَّ الله يُحْىِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} فهو تمثيل ذكر استطرادًا لاحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة بإحياء الأرض الميتة بالغيث للترغيب في الخشوع والتحذير عن القساوة {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات} التي من جملتها هذه الآيات {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} كي تعقلو ما فيها وتعملوا بموجبها فتفوزوا بسعادة الدارين. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}.
قد علم من صدر تفسير هذه السورة أن هذه الآية نزلت بمكة سنة أربع أو خمس من البعثة رواه مسلم وغيره عن عبد الله بن مسعود أنه قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} إلى {وكثير منهم فاسقون} إلا أرْبَعُ سنين.
والمقصود من {الذين آمنوا}: إما بعض منهم ربما كانوا مقصرين عن جمهور المؤمنين يومئذٍ بمكة فأراد الله إيقاظ قلوبهم بهذا الكلام المجمل على عادة القرآن وأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم في التعريض مثل قوله: (ما بال أقوام يفعلون كذا) وقوله تعالى: {وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية} [آل عمران: 154].